المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة الفقير مع صاحبه


أم سليمان
08-12-2016, 04:23 AM
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بـســم الله الـــرحـمــن الرحيـــــم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




كــــان رجل فقير قد طال فقره ، وكان فيه بقية من إنسانية .

فشكا إلى صاحبه الـــذي يعرف فيــــه النصح والرأي السديد

حاله ، فقال : قد كنت تعرف حالي في الفقر ، وأنــا متواطئ

على الفقر ، ولكنــي أريــد منــك نصيحة تخفف عني بعـض

ما أجده من الهموم التي لازمتني في ليلي ونهاري ، وهي

زيادة عما أجد من ألم الفقر وبأسائه وعنائه .


فقال له صاحبه : يا أخي ! اعلم أن الفقراء نوعان :

أحدهما : فقير شريف .

والآخر : فقير وضيع .


فاجتهد أن تكون من الشرفاء الذين فقرهم لا يتعدى فقر

الإفلاس من الموجودات المالية .


وإيـــاك أن تتصف بصفات الفقراء الساقطين الـــذين افتقرت

أيديهم وقلوبهم ، كما بين ذلك النبي صلى الله عليــه وسلـم

في قوله : " ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى

غنى النفس " (1)


فعلم بهــذا الحديث الشريف أن المدار كله على ما في القلوب

من الأوصاف الطيبة أو الدنيئة في حق الغني والفقير .


فمن كان قلبه غنيا بالله فهو الغني حقيقة ، ولو كان فقيرا .

ومن كان قلبه فقيرا إلى الأغراض ، وإلى الخلق ، فهــــو

الفقير حقيقة ، ولو كان مثريا .



فمتـــى علمت أن الله تعالى حكيم في جميع تدبيراته ، وأنـــه

لطيف بعباده المخلصين ، قـد يقدر عليهم من الأقدار الكريهة

للنفوس ، ما يكون سببا ووسيلة لخيرهم وثوابهم ، وأن الله

قد ابتلى بالفقر كثيرا من أوليائه وأصفيائه ، وأن مــن صبر

على شدته واحتسب ذلك عند الله ؛ لـم يـزل فــي زيادة فـــي

إيمانه وثوابه ؛ وخصـوصــــا إذا ضم إلى هذا الوصف قوة

الرجاء والطمع في فضل الله ، وأن الله سيزيل فقره ،

وسيجعل الله بعد عسر يسرا .



متى تحقق بذلك ، هانت عليه وطأة الفقر وشدته ، لما حصل

له في مقابلته من الخير ، ولما يرجوه من الفضل والثواب .


ومما يخفف ذلك : أن يعلم أن حزنه وهمه لا يخفف من فقره

ومصيبته ، بل يزيد ذلك ، فكيف يسعى العاقل في زيادة

عنائه ؟ وكيف لا يتسبب في تخفيف بلائه ؟


ثم اعلم - أيها الفقير - أن أكبر العلل التي توجب الهم والغم،

وتسقط إنسانية العبد وحريته : تعلقه بالمخلوقين ، سؤالا

لهم ، وذلا ورجاء ، وطمعا فيما يناله منهم .


وأن من كان كذلك فإنه مقيد النفس رقيق القلب لغير الله، قد

انقطع رجاؤه ممن كل خير في رجائه ، وكــل الأمور عنده ،

ومفاتيح الأرزاق بيده ، إلى مــن لا يملك لـــه نفعا ولا ضرا

ولا يريد له الخير ، وليس له من الأمر شيء ، وهو فقير

مثله !


فمتــى علقت رجاءك كلـــه بالله ، واحتسبت الأمل عند الله ،

وسلمت مـــــن التعلق بالمخلوقين ، ورجوت زوال عسرك ،

أبدلك الله بهمك فرحا ، وبكدرك راحة ويسر الله لك الأمور ،

وأوقع في قلبك القناعة التي من ملكها ملك الكنز الأكبر ،

وقد ضمن الله للمتقي أن يجعل له من كل هم فرجا ، ومن

كل ضيق مخرجا .


وأما قولك - يا أخي - : إني متواطئ على الفقر ، فهـو كلام

غالط من وجهين :


أحدهـما : أنه لا ينبغي لك أن تيأس من روح الله ورحمته ،

وفضله وإحسانه .


الثاني: يجب عليك أن تسعى بكل سبب يزيل فقرك أو يخففه،

فاعمل بالأسباب النافعة مـن بيع أو شراء أو حرفة أو خدمة

أو ما يناسب حالك ، وتحسنه من الأسباب ، فقد قـــال صلى

الله عليه وسلم "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب

على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن

يسأل الناس أعطوه أو منعوه " (2)



ومتــى عملــت بالأسبـــاب بهـــذه النيـــة - نيـــة الاستعفاف

والاستغناء عن الناس - يســر الله أمـرك ، وبـــارك لك فــي

الشــيء القليل ، وسلمت من الفقر الوضيع، وهو فقر القلب

لغير الله ، ودخول الفقير في معاصي الله وفي الأمور الدنيئة

الضارة، التي إذا ابتلي بها العبد عوقب بعدة عقوبات، أقلها

أنها سبب لبقاء فقره وزيادته ، كما هو مشاهد مجرب .

وأكثر الفقراء قد جمعوا بين فقر الدنيا والآخرة .


فقر القلوب ، وفقر الإفلاس والافتقار إلى المخلوقين ،

وتعلق القلوب بهم ، والذل الوضيع لهم .

وهذا نهاية الهبوط والسقوط .

فالموفق الحازم يستعيذ بالله من هذه الحال ، ويعمل

الأسباب الواقية والدافعة ، كمــــا ذكرنا .

والله تعالى هو الموفق المعين .



كتاب الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة فـي العقائد والفنون


المتنوعة الفاخرة(ص197) للشيخ عبدالرحمن السعدي (بتصرف)


.....


(1) أخرجه البخاري في صحيحه ( ك الرقاق ، ب الغنى غنى

النفس ، ص 1238 / ح 6446 )

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه


(2) أخرجه البخاري في صحيحه ( ك الزكاة ، ب الاستعفاف

عن المسألة ، ص 287 / ح 1471 )

من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ