{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّ
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} وهـٰذه الآية الكريمة فيها بيان ثمرةٍ عظيمة من ثمار الإيمان وأثرٌ مبارك من آثاره العظام ألا وهو : أن الله عز وجل يجعل للمؤمن الذي يعمل الصالحات وُدًّا في قلوب عباده ، وتأمل قول الله عز وجل في هـٰذه الآية الكريمة : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ﴾ فهـٰذا منُّ الله عز وجل وفضله وتوفيقه سبحانه ، وهو -كما تقدَّم- أثرٌ من آثار الإيمان والأعمال الصَّالحات. وفوائد الإيمان لا حصر لها ، وقد كتب فيها أهل العلم كتابات نافعة، ومن أميَز ذلك ما كتبه العالم المحقِّق الشَّيخ عبد الرحمـٰن بن ناصر السعدي رحمه الله في كتابه « التَّوضيح والبيان لشجرة الإيمان» ؛ حيث عقد فيه فصلًا في بيان فوائد الإيمان وثماره وآثاره . وهـٰذه الفائدة التي دلَّت عليها هـٰذه الآية الكريمة ﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ يبيِّنها الحديث الذي في صحيح مسلم - حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقد أورده عامَّة المفسرين عند هـٰذه الآية الكريمة - أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ )) « يُوضَعُ » تأمّل هنا وفي الآية قال: ﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ ﴾ الأمر بيده جلَّ وعلا. قال: (( وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ ، فَيَقُولُ : إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ )) نسأل الله لنا جميعًا العافية قَالَ: ((فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ )) . وهـٰذا الحديث لما خرّجه مسلم في صحيحه وذكر له بعض الطرق ذكر في بعض طرقه -طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة – قصة ، وهي أن سهيل بن أبي صالح يقول : « كُنَّا بِعَرَفَةَ فَمَرَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيز وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِمِ فَقَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ - أي: نظرة حبّ وتقدير ومودّة - فَقُلْتُ لِأَبِي : يَا أَبَتِ إِنِّي أَرَى اللَّهَ يُحِبُّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، قَالَ وَمَا ذَاكَ ؟ قُلْتُ لِمَا لَهُ مِنْ الْحُبِّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ ، فَقَالَ : بِأَبِيكَ أَنْتَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ((إنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا...)) وذكر الحديث». وجاء عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه أنه كتب إلى مسْلَمة بن مُخَلَّد رضي الله عنه وكان وَلِي مصر فقال له: « سَلامٌ عَلَيْك أمَّا بَعْد : فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا عَمِل بِطَاعَةِ الله أَحَبَّهُ اللهُ، فَإِذَا أَحَبَّهُ اللهُ حَبَّبَهُ إِلَى عِبَادِه ، وَإِنَّ العَبْدَ إِذَا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ أَبْغَضَهُ اللهُ، فَإِذَا أَبْغَضَهُ، بَغَّضَهُ إِلَى عِبَادِهِ » ؛ وهـٰذه البُغضة التي تكون من نصيب من يعصي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تُوضع في قلوب العباد ، ولهـٰذا يجد الإنسان العاصي وحشة بينه وبين الصَّالحين من عباد الله خاصة، ويجد نفسه نافرةً منهم ، وأنَّه ليس منهم وليسو منه ، ولا يحرص على مجالستهم ؛ وهـٰذا كله من شؤم المعصية وآثارها السَّيئة وعواقبها الوَخيمة على الإنسان في هـٰذه الحياة الدُّنيا . ثم إنّ المؤمن عندما يقوم بالأعمال الصَّالحات يجب عليه أن يقوم بها مبتغيًا بها وجه الله راجيًا بها ثواب الله، لا يقوم بها تزلُّفًا للمخلوقين وتصنُّعًا للعباد ومراءاة للنَّاس ، فإنَّ المراءاة والتصنُّع والتزلّف للنَّاس لا تزيد الإنسان عند الله إلا بُعدًا ، وفي قلوب النَّاس لا يزداد إلا مقتًا ، والعبادة لا يُتقرَّب بها إلَّا إلى الله، ولا يُطلب بها إلَّا ثواب الله، ولا يُرجى من ورائها إلا نيل رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة:5] . أمَّا من يقوم بالعبادات من أجل النَّاس تصنُّعا وتزلُّفًا ومراءاة فهـٰذا لا يحصِّل ما أمَّل ويَحرم نفسَه ثواب تلك الأعمال وأجورها ، في الحديث القدسي يقول الله تعالى : « أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ». وممَّا يُروى في هـٰذا المقام : ما رواه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: « إنَّ رجلاً قال: لأعبدنَّ الله عبادة أُذكر بها -أنظر إلى النِّية- ثم أخذ يجتهد في العبادة ، فكان لا يُرى إلا قائمًا يُصلِّي ، قال: وكان أوَّل داخل للمسجد وآخر خارجٍ منه - لـٰكن النِّية ما هي؟ (عبادة أُذكر بها) - قال: فلم يعظَّم ، وكان كلَّما مرَّ بقوم قالوا : انظروا هـٰذا المرائي - لأنَّ الإنسان مهما حاول أن يخبِّئ خفاياه يفضحه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، ولا يجعل له قَبولًا أو محبَّة في قلوب العباد ، ولهـٰذا ننتبَّه مرَّة ثانية لقوله: ﴿ سَيَجْعَلُ ﴾ وأيضا لقوله: «يُوضَعُ له» هـٰذا أمرٌ بيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى – قال : فكان لا يمرُّ بقوم إلَّا قالوا: انظروا إلى هـٰذا المرائي، فقال: ما أراني أُذكر عند النَّاس إلا بشرٍّ - واربط هـٰذا بقوله في بداية الكلام: (عبادة أُذكر بها) ، فأصبح لا يُذكَر عند النَّاس إلا بشرٍّ ، عُومِل بنقيض قصْده ، حتى الشَّيء الذي كان يطمع فيه في دنياه ما حصَّله - قال: فلمَّا رأى هـٰذه الحال قال: لأجعلنَّ عملي كلَّه لله ، وقَلَب نيَّته ، قال: فما أن قلب نيَّته ولم يزد على العمل الذي كان يعمل حتى كان لا يمرُّ على قوم إلَّا قالوا : رحم الله فلانًا - يعني أصبح في ألسنة الناس الدُّعاء له - ثم تلا الحسن قول الله سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ ». والعبد ينبغي أن يسعى في هـٰذه الحياة في نيل محبَّة الله ونيل محبة عباد الله ، وقد جاء في ابن ماجه وغيره عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنَّ رجلا قال : يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ )) الشاهد أن الإنسان يجتهد في هـٰذه الحياة في نيل محبَّة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ولن ينال هـٰذه المحبَّة بمجرد الأماني ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾[النساء:123] بل لهـٰذا علامة وبيِّنة بيَّنها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قوله: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:31] ، ومن الدُّعاء المأثور عن نبينا صلى الله عليه وسلم ممّا يتعلق بهـٰذا المقام : «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ». ولِيَكُن هـٰذا الدُّعاء ختام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بتصرف قليل / من تفريغ محاضرة للشيخ : - عبد الرازق بن عبد المحسن البدر |
الساعة الآن 03:01 AM بتوقيت مسقط |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By
Almuhajir