عرض مشاركة واحدة
  #34  
قديم 12-27-2022, 12:00 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,016
Haedphone

"الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ"197.
بعد أن ذكر سبحانه أعمال الحج وبيَّنَ ما يجب على المُحْصَرِ أن يفعله من ذبح الهدي وعدم الحلق حتى يبلغ الهدي محله، ثم ذكر حُكْم من لم يجد ذلك، أعقب هذا بذكر زمان الحج، وما يجب على من أوجب على نفسه الحج.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ :أي لأداء فريضة الحج أشهر معلومة لدى الناس، وهي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة،فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج .وهذا هو المروي عن ابن عباس، وجرى عليه أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ: أي فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية أو بسوق الهدي، لأن الحج عبادة لها تحريم وتحليل، فلا يكفي للشروع فيه مجرد النية بل لا بد من فعل به يشرع فيه. فمن أحرم به أي شرع فيه ، فالشروع فيه يصيره مثل الفرض من حيث كيفية أداؤه، ولو كان نفلًا، مثل من شرع في صلاة نافلة يلزمة أن يؤديها بأركانها وواجباتها كما يؤدي الفريضة طالما شرع ودخل في النافلة. واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه، على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، ولو قيل: إن فيها دلالة لقول الجمهور، بصحة الإحرام بالحج قبل أشهره لكان قريبا، فإن قوله" فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ " دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها، وإلا لم يقيده.
فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ : أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج ، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه، من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصا عند النساء بحضرتهن. والفسوق وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام. والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة. والمقصود من الحج، الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور، ليس له جزاء إلا الجنة، الحج المبرور: هو الذي وُفيت أحكامه، ولم يخالطه شيء من الإثم. وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج. واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر، ولهذا قال تعالى "وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ" أي: اتركوا الأقوال والأفعال القبيحة، وسارعوا إلى الأعمال الصالحة خصوصًا في تلك الأزمنة والأمكنة المفضلة، والله- تعالى- لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وهو- سبحانه- سيجازيكم على فعل الخير بما تستحقون من جزاء.
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهمَا قالَ: كانَ أهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ ولَا يَتَزَوَّدُونَ، ويقولونَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى" وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى"البقرة: 197.الراوي : عبدالله بن عباس - صحيح البخاري.
والمعنى: واستَعينوا على أداءِ الحجِّ بأخْذِ ما تَحتاجون إليه مِن طَعامٍ وشَرابٍ، واعْلَموا أنَّ خَيرَ ما تَستَعينون به في كلِّ شُؤونِكم هو تَقْوى اللهِ تعالَى.وفي الحديثِ: أنَّ تَرْكَ سُؤالِ النَّاسِ مِن التَّقوى.
وفيه: أنَّ التَّوكُّلَ لا يكونُ مع السُّؤالِ؛ وإنَّما التَّوكُّلُ على اللهِ تعالَى ألَّا يَستعينَ بأحَدٍ في شَيءٍ.الدرر السنية.
لما أمرهم أن يتزودوا بالزاد المادي الحقيقي الذي يغنيهم عن سؤال الناس، ويصون لهم ماء وجوههم. أمرهم وأرشدهم أيضًا إلى زاد الآخرة ، وهو استصحاب التقوى وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والإكثار من العمل الصالح .
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ: أي: أخلصوا لي يا أصحاب العقول السليمة الرزينة ، والمدارك الواعية، اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول السليمة.والجملة الكريمة ليست تكرارا لسابقتها، لأن الأولى حث على التقوى وهذه حث على الإخلاص فيها.

"لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ"198.
بين- سبحانه- أن التزود بالزاد الروحي لا يتنافى مع التزود بالزاد المادي متى توافرت التقوى.
الجناح: أصله من جنح الشيء إذا مال: يقال جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها.والمراد بالجناح هنا الإثم والذنب، لأنه لما كان الإثم يميل بالإنسان عن الحق إلى الباطل سمي جناحًا.
والابتغاء: الطلب بشدة، والفضل: الزيادة وتكون في الخير والشر إلا أنه جرى العرف أن يعبر عن الزيادة الحسنة بالفضل وعن الزيادة القبيحة بالفضول.
أي: لا إثم ولا حرج عليكم في أن تطلبوا رزقا حلالا ومالا طيبا عن طريق التجارة أو غيرها من وسائل الكسب المشروعة في موسم الحج.فالآية الكريمة صريحة في إباحة طلب الرزق لمن هو في حاجة إلى ذلك في موسم الحج، بشرط ألا يشغله عن أداء فرائض الله.
عن أبي أُمامةَ التَّيميِّ قالَ : كنتُ رجلًا أُكرِّي في هذا الوجْهِ وَكانَ ناسٌ يقولونَ لي إنَّهُ ليسَ لَكَ حجٌّ فلقيتُ ابنَ عمرَ فقلتُ يا أبا عبدِ الرَّحمنِ إنِّي رجلٌ أُكرِّي في هذا الوجْهِ وإنَّ ناسًا يقولونَ لي إنَّهُ ليسَ لَكَ حجٌّ فقالَ ابنُ عمرَ أليسَ تُحرِمُ وتلبِّي وتطوفُ بالبيتِ وتفيضُ من عرفاتٍ وترمي الجمارَ قالَ قلتُ بلى قالَ فإنَّ لَكَ حجًّا جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فسألَهُ عن مثلِ ما سألتني عنْهُ فسَكتَ عنْهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فلم يُجبْهُ حتَّى نزلت هذِهِ الآيةُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فأرسلَ إليْهِ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ وقرأَ عليْهِ هذِهِ الآيةَ وقالَ لَكَ حجٌّ "الراوي : أبو أمامة التيمي -المحدث : الألباني -المصدر : صحيح أبي داود -الصفحة أو الرقم : 1733 خلاصة حكم المحدث : صحيح .
كُنتُ رَجُلًا أَكْري في هذا الوَجْه»، أي: أُؤَجِّرُ دابَّتي في سَفَر الحَجِّ، «وكان ناسٌ يقولون لي: إنَّه ليسَ لك حَجٌّ»؛ لتوهُّمِ عدَمِ وجودِ النِّيَّةِ الخالِصة للحَجِّ؛ لأنَّه حيثُ اشتغَلَ بالكِراءِ فإنَّ سَيرَه لأجْلِ دابَّتِه لا لأعْمالِ الحَجِّ.
أي: إنَّ كِراءك لِدابَّتك مع أدائك لأعْمالِ الحَجِّ لا يُخِلُّ بِحجِّك.

قالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهمَا: كانَ ذُو المَجَازِ وعُكَاظٌ مَتْجَرَ النَّاسِ في الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلَامُ كَأنَّهُمْ كَرِهُوا ذلكَ، حتَّى نَزَلَتْ"لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ"البقرة: 198، في مَوَاسِمِ الحَجِّ."الراوي : عبدالله بن عباس - صحيح البخاري.
وفي هذا الأثرِ يُخبِرُ ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ ذا المَجازِ وعُكاظًا كانَتَا سُوقينِ للناسِ في الجاهليَّةِ، وذو المَجازِ: بناحيةِ عَرَفةَ إلى جانِبِها، وقيل: في مِنًى، وعُكاظٌ: خلْفَ قَرْنِ المَنازل بـ(44 كم) على طَريقِ صَنعاءَ اليمنِ، فلمَّا جاء الإسلامُ كأنَّ المسلمينَ كَرِهوا التِّجارةَ في أيَّامِ الحجِّ مِثلَ المشركينَ، وخَوفًا مِن الوقوعِ في الإثمِ؛ للاشتِغالِ في أيَّامِ النُّسكِ بغَيرِ العبادةِ. حتَّى نزَلَ قولُ اللهِ تعالَى"لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ"البقرة: 198، أي: ليس عليكم إثْمٌ أنْ تَطلُبوا الرِّزقَ الحَلالَ بالتِّجارةِ وغيرِها في أثناءِ الحجِّ، عَطاءً ورِزقًا مِنه سُبحانه، وهذا تَفضُّلٌ مِن اللهِ سُبحانه عليهم.
وكان ناسٌ مِن العرَبِ في الجاهليَّةِ يَتأثَّمون أنْ يَتَّجِروا أيَّامَ الحجِّ، وإذا دَخَلَ العشْرُ كَفُّوا عن البيعِ والشِّراءِ، فلم يَقُمْ لهم سُوقٌ، ويُسَمُّون مَن يَخرُجُ بالتِّجارةِ الدَّاجَّ، ويَقولون: هؤلاء الداجُّ وليسوا بالحاجِّ، والدَّاجُّ: الأتْبَاع والأعْوانُ.
وفي الحديثِ: مَشروعيَّةُ البيعِ والشِّراءِ للمُحرِمِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ التِّجارةِ في أسواقِ الجاهليَّةِ والمشركينَ.الدرر السنية.
فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ :

الفاء في قوله: فَإِذَا: لتفصيل بعض ما أجمل من قبل في قوله فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ..

أَفَضْتُم:اندفعتم بكثرة متزاحمين. وذلك تشبيه لهم بالماء إذا كثر ودفع بعضه بعضًا فانتشر وسال من حافتي الوادي والإناء.

فأصل هذه الكلمة الدفع للشيء بكثرة حتى يتفرق.والمراد: خروجهم من عرفات بشيء من السرعة في تكاثر وازدحام متجهين إلى المزدلفة. وعرفات: اسم للجبل المعروف .
فأمر الحُجَّاجَ أن يذكروه سبحانه عند المزدلفة بعدَ أن يدفعوا إليها من عَرفات، وهذا الذِّكر الذي أمر الله به يدخُل فيه الصلاةُ والدعاء عندها . والتصريح باسم " عرفات " في هذه الآية للرد على قريش؛ إذ كانوا في الجاهلية يقفون في " جَمْع " وهو المزدلفة؛ لأنهم حُمْس ، فيرون أن الوقوف لا يكون خارج الحرم ، ولما كانت مزدلفة من الحرم كانوا يقفون بها ولا يرضون بالوقوف بعرفة ، لأن عرفة من الحل .

"...........وكانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِن عَرَفَاتٍ، ويُفِيضُ الحُمْسُ مِن جَمْعٍ، قالَ: وأَخْبَرَنِي أبِي، عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنَّ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ في الحُمْسِ"ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ"البقرة: 199، قالَ: كَانُوا يُفِيضُونَ مِن جَمْعٍ، فَدُفِعُوا إلى عَرَفَاتٍ."الراوي : عائشة أم المؤمنين -صحيح البخاري .
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ:أي: اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم، التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان.


" ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"199.
الآية التي قبلها: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وهذه الآية : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، فكل ذلك في الإفاضة من عرفة، الأول أعلمهم فيه بما يكون عند انتقالهم من عرفة إلى مزدلفة من الذكر عند المشعر الحرام، وهو مزدلفة، وفي الثانية: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ: فِيهِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: المُرادُ بِهِ الإفاضَةُ مِن عَرَفاتٍ. القَوْلُ الثّانِي: وهو اخْتِيارُ الضَّحّاكِ: أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الإفاضَةُ مِنَ المُزْدَلِفَةِ إلى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلرَّمْيِ والنَّحْرِ.تفسير الرازي.
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ :فالعبد لا يستغني عن الاستغفار؛ لأنه مهما فعل، وتقرب، وعمل، وبذل وأحسن وأنفق، فإنه لا يؤدي نعمة الله عليه، لا في دينه، ولا في دنياه ، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد، في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة. وهكذا ينبغي للعبد, كلما فرغ من عبادة، أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة، ومَنَّ بها على ربه، وجَعَلَت له محلا ومنزلة رفيعة، فهذا حقيق بالمقت، ورد الفعل، كما أن الأول، حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أُخر.تفسير السعدي.
فالمُرادُ مِنهُ الِاسْتِغْفارُ بِاللِّسانِ مَعَ التَّوْبَةِ بِالقَلْبِ، وهو أنْ يَنْدَمَ عَلى كُلِّ تَقْصِيرٍ مِنهُ في طاعَةِ اللَّهِ، ويَعْزِمَ عَلى أنْ لا يُقَصِّرَ فِيما بَعْدُ، ويَكُونَ غَرَضُهُ في ذَلِكَ تَحْصِيلَ مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى لا لِمَنافِعِهِ العاجِلَةِ، كَما أنَّ ذِكْرَ الشَّهادَتَيْنِ لا يَنْفَعُ إلّا والقَلْبُ حاضِرٌ مُسْتَقِرٌّ عَلى مَعْناهُما، وأمّا الِاسْتِغْفارُ بِاللِّسانِ مِن غَيْرِ حُصُولِ التَّوْبَةِ بِالقَلْبِ فَهو إلى الضَّرَرِ أقْرَبُ.تفسير الرازي.
"فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ"200.
قال ابن كثير: عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم- بين مسجد منى وبين الجبل بعد فراغهم من الحج يذكرون فضائل آبائهم- فيقول الرجل منهم. كان أبي يطعم الطعام ويحمل الديات ... ليس لهم ذكر غير أفعال آبائهم فأنزل الله- تعالى- على نبيه صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية.ا.هـ.والمعنى: فإذا فرغتم من عباداتكم، وأديتم أعمال حجكم، فتوفروا على ذكر الله وطاعته كما كنتم تتوفرون على ذكر مفاخر آبائكم، بل عليكم أن تجعلوا ذكركم لله- تعالى- أشد وأكثر من ذكركم لمآثر آبائكم.
فالمقصود من الآية الكريمة الحث على ذكر الله- تعالى- والنهى عن التفاخر بالأحساب والأنساب.
وبعد أن أمر- سبحانه- الناس بذكره، بيَّنَ أنهم بالنسبة لدعائه وسؤاله فريقان، أما الفريق الأول فقد عبر عنه بقوله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ:أي: من الناس نوع يقول في دعائه يا ربنا آتنا ما نرغبه في الدنيا فنحن لا نطلب غيرها، وهذا النوع ليس له في الآخرة من خَلاقٍ أي: ليس له نصيب وحظ من الخير.
"وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ :201.
ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين, ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه. "عنْ عبْدِ العزِيزِ بْنِ صُهَيبٍ قال: سَأَلَ قَتَادَةُ أَنَسًا: أَيُّ دَعْوَةٍ كانَ يَدْعُو بهَا النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَكْثَرَ؟ قالَ: كانَ أَكْثَرُ دَعْوَةٍ يَدْعُو بهَا يقولُ: اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. "قالَ: وَكانَ أَنَسٌ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بدَعْوَةٍ دَعَا بهَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بدُعَاءٍ دَعَا بهَا فِيهِ."الراوي : عبدالعزيز بن صهيب - صحيح مسلم .
وبين- سبحانه- أن هذا النوع الثاني من الناس قد التمس من خالقه أن يقيه عذاب النار مع أن هذا الدعاء مندرج تحت حسنة الآخرة، وذلك لأن هذا النوع من الناس لقوة إيمانه، وصفاء وجدانه، وشدة خشيته من ربه يغلب الخوف على الرجاء، فهو يستصغر حسناته مهما كثرت بجانب نعم الله وفضله، ويلح في الدعاء وفي الطلب أملا في الاستجابة.
"أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ"202.
إن الإشارة تعود إلى الفريقين. أي: لكل من الفريقين نصيب من عمله على قدر ما نواه وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم, وهماتهم ونياتهم, جزاء دائرا بين العدل والفضل. ويضعفه أن الله- تعالى- قد ذكر قبل ذلك عاقبة الفريق الأول بقوله: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وقيل اسم الإشارة " أُولَٰئِكَ " يعود إلى الفريق الثاني باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجميلة .الوسيط.
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ : وهو سريع المحاسَبة للخَلْق يوم القيامة دون أنْ يظلِمَ أحَدًا شيئًا، ودون الحاجةِ إلى تذكُّرٍ أو تأمُّلٍ، كما أنَّه سبحانه سريعُ المجازاة لعباده.

التعديل الأخير تم بواسطة أم أبي التراب ; 12-28-2022 الساعة 12:14 AM
رد مع اقتباس