عرض مشاركة واحدة
  #40  
قديم 02-22-2023, 02:45 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,023
Haedphone

من آية 219 إلى آية 220 .

"يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ "219.
وبعد هذا الحديث الجامع عن البذل والتضحية، ساق القرآن في آيتين ثلاثة أسئلة وأجاب عنها بما يشفي الصدور، ويصلح النفوس.
أي: يسألك المؤمنون يا محمَّد، عن حُكم الخمر- وهي: كلُّ شرابٍ مسكِر يُغطِّي عقل صاحبه- وعن حُكم الْمَيْسِرِ وهوالقِمار. وقد كانا مستعملين في الجاهلية وأول الإسلام, فكأنه وقع فيهما إشكال، فلهذا سألوا عن حكمهما، فأمر الله تعالى نبيه, أن يبين لهم منافعهما ومضارهما, ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما, وتحتيم تركهما.
عن عمرَ بنِ الخطَّابِ أنَّهُ قالَ " اللَّهمَّ بيِّن لَنا في الخَمرِ بيانَ شفاءٍ ، فنزلتِ الَّتي في البقرةِ "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ" الآيةَ، فدُعِيَ عمرُ فقرئت علَيهِ قالَ: اللَّهمَّ بيِّن لَنا في الخمرِ بيانَ شفاءٍ، فنزلتِ الَّتي في النِّساءِ"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى" ، فدُعِيَ عمرُ فقُرِئَت علَيهِ، ثمَّ قالَ: اللَّهمَّ بيِّنَ لَنا في الخمرِ بيانَ شفاءٍ، فنزلتِ الَّتي في المائدةِ" إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ" إلى قولِهِ " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" فدُعِيَ عمرُ فقُرِئَت علَيهِ فقالَ: انتَهَينا انتَهَينا "الراوي : عمر بن الخطاب - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم : 3049 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
كان عُمرُ رضِيَ اللهُ عنه يَميلُ إلى أنْ يأتيَ من عِند اللهِ عزَّ وجلَّ ما يُحرِّمُها؛ فنَزلتِ الآيةُ الَّتي في البقرةِ"يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا"البقرة: 219، أي: إنَّ الخمرَ فيها أضرارٌ ومنافِعُ، وكانت منافِعُها في التِّجارةِ وأمورِ البيعِ والشِّراءِ، فَلَمْ يكُنْ في تِلك الآيةِ نَهْيٌ عنها، بل إظهارُ ما بها من مَضارَّ؛ ليتفكَّرَ النَّاسُ فيها، فَدُعِيَ عمرُ فقُرِئَتْ عليه، أي: عُرِضَتْ عليه تلك الآيةُ فَلَمْ تَشْفِهِ؛ فقال: اللَّهمَّ بَيِّنْ لنا في الخَمرِ بيانًا شِفاءً، أي: أَنزِلْ ما يَفْصِلُ فيها ويُوضِّح أكثرَ من تلك الآيةِ، "فنزلَتِ الآيةُ التي في النِّساءِ"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى"النساء: 43، أي: كان النَّهْيُ في الصَّلاةِ فقط، والنَّهيُ المُتعلِّقُ بها في الصَّلاةِ هو السُّكْرُ لا الشُّرْبُ، "فكان مُنادي رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أي: مُؤذِّنُهُ، "إذا أُقيمَتِ الصَّلاةُ يُنادي: ألا لا يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرانُ، فَدُعِيَ عمرُ فقُرِئَتْ عليه"، أي: عُرِضَتْ عليه تِلك الآيةُ فَلَمْ تَشفِهِ، "فقال: اللَّهمَّ بَيِّنْ لنا في الخمرِ بيانًا شِفاءً"، أي: بَيِّنْ لنا فيها ما هو أَكْثَرُ من ذلك، "فنزلَتْ هذه الآيةُ"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" المائدة: 90، 91، أي: يَنهى اللهُ عزَّ وجلَّ صراحةً في تلك الآيةِ عن شُرْبِ الخمرِ، ويأمُر باجتنابِها؛ "فقال عُمَرُ: انتهيْنا"، أي: كانتْ تلك الآيةُ بمَنزلةِ الفَصْلِ الَّذي كان يُريدُهُ عمرُ بنُ الخطَّابِ في الخمرِ.
وفي الحديثِ: مَنْقَبَةٌ لِعمرَ بنِ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه.الدرر.
وَالْمَيْسِرِ : وأمَّا مفسدة القِمار فبإيقاع العداوة والبغضاء، والصَّدِّ عن ذِكر الله وعن الصَّلاة، وهذه مفاسدُ عظيمةٌ لا نسبةَ إلى المنافع المذكورة إليها.
وهذه الآية من أدلة القاعدة الفقهية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.إذا تعارضت مفسدة ومصلحة ، وتساويا ، فإن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة .
وذلك لأن وجود المفسدة يؤثر تأثيرًا سلبيًّا على تحصيل المنفعة ، لذا قالوا " التخلية قبل التحلية " ، أي إزالة العقبات من طريق جلب المصلحة أو المنفعة .
ودفع المفسدة مُقدم على جلب المنفعة لحكمة أخرى حاصلها : أن المفسدة إذا لم تُدفع في أول أمرها ربما تتفاقم وتنتشر وتجر إلى مفاسد أخرى ، وتحُول بين جلب المنافع الدنيوية والأخروية .القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه / ص : 107 / بتصرف .
فإذا تساوت المصلحة والمفسدة ، ولم ترجح إحداهما ، فدرء المفاسدمقدم على جلب المصالح لأن عناية الشارع بترك المنهيات آكد من عنايته بفعل المأمورات .
* فعن أبي هريرة ، قال خطب رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ الناس فقال " ، فإذا أمرتكم بالشيء فخذوا به ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"سنن النسائي تحقيق الشيخ الألباني / 24 -كتاب : مناسك الحج / 1ـ باب : وجوب الحج / حديث رقم : 2619 / ص : 409 / صحيح.
فالمأمورات قال فيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم " فخذوا به ما استطعتم " ، فعلقها على الاستطاعة ، وذلك باستفراغ الجهد .
أما المنهيات فقال فيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم " فاجتنبوه " . أي ابتعدوا عن المنهيات تمامًا .
منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
مثال ذلك : يمنع الشخص من الترف في ملكه إذا كان تصرفه يضر بجاره ضررًا فاحشًا ؛ لأن درء المفاسد عن جاره ـ مقدم ـ وأولى من جلب المنافع لنفسه .

الدرة المرضية شرح منظومة القواعد الفقهية ... / جمعة صالح محمد / ص : 47
*أنه إذا تعارضت مفسدة ومصلحة ، وكانت المفسدة أعظم من المصلحة ، وجب تقديم دفع المفسدة ، وإن استلزم ذلك تفويت المصلحة ، لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات ، كما سبق توضيحه عاليه .
ومن شواهد هذه القاعدة :
قوله تعالى "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافعُ لِلناسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبرُ من نَّفْعِهِما " .سورة البقرة / آية : 219 .
فحرم الله الخمر والميسر ، لأن مفسدتهما أعظم من مصلحتهما .
قال الحافظ ابن كثير :
" أما إِثمهما فهو في الدين ، وأما المنافع فدنيوية من حيث إن فيها نفع البدن وتهضيم الطعام ، وإخراج الفضلات ، ولذة الشدة التي فيها ، وكذا بيعها والانتفاع بثمنها ، وما كان يقمِّشة بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله ، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين ، ولهذا قال تعالى : "وَإِثْمُهُمَا أَكْبرُ من نَّفْعِهِمَا" .القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب : إعلام الموقعين لابن القيم / ص : 339 / بتصرف .
*أما إذا دار الفعل بين مصلحة ومفسدة ، وكانت المصلحة أرجح من المفسدة ، حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة . وهذا مُفاد القاعدة التالية:

تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة
ومن دلائل هذه القاعدة :
ـ قول الله عز وجل " وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" .سورة البقرة / آية : 179 .
* قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
" ... فلولا القصاص لفسد العالَم ، وأهلك الناس بعضهم بعضًا استبداءً واتيفاءً ، فكان القصاص دفعًا لمفسدة التَّجَرِّي على الدماء بالجناية أو بالاستيفاء ، وقد قالت العرب في جاهليتها :
" القتال أنفع للقتل" ، وبسفك الدماء تُحقن الدماء" . ا . هـ . 2 / 91 .

القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب : إعلام الموقعين لابن القيم / ص : 343 .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في تفسير هذه الآية :
" وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ" . أي : تنحقن بذلك الدماء ، وتنقمع به الأشقياء ، لأن من عَرف أنه مقتول إذا قَتل ، لا يكاد يصدر منه القتل ، وإذا رؤي القاتل مقتولاً انذعر بذلك غيره وانزجر ، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل ، لم يحصل انكفاف الشر ، الذي يحصل بالقتل ، وهكذا سائر الحدود الشرعية ، فيها من النكاية والانزجار ، ما يدل على حكمة الحكيم الغفار ، ونكَّر سبحانه ـ أي جعلها نكرة ـ " الحياة " لإفادة التعظيم والتكثير .
ولما كان هذا الحكم ، لا يعرف حقيقته إلا أهل العقول الكاملة ، والألباب الثقيلة ، خصهم بالخطاب دون غيرهم ، وهذا يدل على أن الله تعالى يحب من عباده أن يعملوا أفكارهم وعقولهم ، في تدبر ما في أحكامه ، من الحِكَم ، والمصالح الدالة على كماله ، وكمال حكمته وحمده ، وعدله ورحمته الواسعة ، وأن من كان بهذه المثابة ، فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب ، وناداهم رب الأرباب ، وكفى بذلك فضلًا وشرفًا لقوم يعقلون..ا . هـ .

وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ :ومناسبة هذا السؤال لما قبله أنهم بعد أن نُهُوا عن إنفاق أموالهم في الوجوه المحرمة كتعاطى الخمر والميسر، سألوا عن وجوه الإنفاق الحلال، وعن مقدار ما ينفقون فأجيبوا بهذا الجواب الحكيم.
قُلِ الْعَفْوَ : وأصل العفو في اللغة الزيادة. يقال : عفا الشيء إذا كثر قال- تعالى" ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا"الأعراف : 95. أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم ،زادوا على ما كانوا عليه من العدد.
والمراد به هنا: ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة، إذ هذا القدر الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله، ولا يتضرر صاحبه بتركه.
والمعنى، ويسألونك ما الذي يتصدقون به من أموالهم في وجوه البر، فقل لهم تصدقوا بما زاد عن حاجتكم، وسهل عليكم إخراجه، ولا يشق عليكم بذله.الوسيط.
"أعتق رجلٌ من بنى عذرةَ عبدًا له عن دبْرٍ فبلغ ذلك رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: ألك مالٌ غيرُه ؟ قال : لا، فقال رسولُ اللهِ : من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيمُ بنُ عبد اللهِ العدوي بثمانمائةِ درهمٍ، فجاء بها رسولُ اللهِ فدفعها إليه ثم قال : ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها فإن فضلَ شيءٌ فلأهلكَ، فإن فضل من أهلك شيءٌ، فلذي قرابتِك فإن فضَل من ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا، وهكذا، يقول : بين يدَيك، وعن يمينِك، وعن شمالكَ"الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح النسائي - الصفحة أو الرقم : 4666 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
عبدًا له عن دبْرٍ :أي: قرَّرَ هذا الرَّجلُ أنَّه بعْدَ أنْ يَموتَ يُصْبِحُ مَملوكُه حُرًّا، ولَمْ يَكُنْ له مالٌ غَيْرُ هذا العَبدِ، وهذا كنايةٌ عن احتياجِه للمالِ، فبلَغَ ذلك رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يوافِقْه على فِعْلِه ذلك، ثم سأل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه" من يشتريه مني؟" فأراد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيْعَه للرَّجلِ؛ لكَونِه فَقيرًا مُحتاجًا للمالِ؛ فبَيْعُه والانتفاعُ بِمالِه أوْلى مِن عِتْقِه، فاشتراهُ نُعيمُ بنُ عبدِ اللهِ بن النحامِ العَدويُّ بثَمانِمِائةِ دِرْهمٍ، فجاء بها لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأعطاها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للرَّجلِ. ثم قال : ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها فإن فضلَ شيءٌ فلأهلكَ، فإن فضل من أهلك شيءٌ، فلذي قرابتِك فإن فضَل من ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا، وهكذا، يقول : بين يدَيك، وعن يمينِك، وعن شمالكَ"الدرر.
والمراد به هنا: ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة، إذ هذا القدر الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله، ولا يتضرر صاحبه بتركه.
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : أي: كما فصَّل الله تعالى هذه الأحكامَ كحُكم الخمر وغيره، وأوضحها غايةَ الإيضاح، فكذلك يُوضِّح الله جلَّ وعلا لنا بمِثل ذلك البيان سائر آياته وأحكامه الشرعيَّة؛ كي نتفكَّر من خلالها فيما شرَعه الله تعالى من أحكام تتعلَّق بشؤون الدارينِ، ولأجْل أن يقودَنا ما جاء فيها من وعدٍ ووعيد وثوابٍ وعقاب، إلى التفكُّر في الدنيا وسرعة انقضائها، وفي إقبال الآخِرة وبقائها، فنزهَد في الأولى، ونُعمِّر الثانية؛ عملًا بطاعة الله تعالى، وتركًا لشهوات يسيرة فانية.الدرر السنية موسوعة التفسير.
"فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "220.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى : لَمَّا ذكَر سبحانه وتعالى السؤالَ عن الخمر والميسر، وكان في تَرْكهما إصلاحُ أحوالهم وأنفسهم، أمَر بالنَّظر في حال اليتامى؛ إصلاحًا لغيرهم ممَّن هو عاجزٌ أن يصلح نفْسَه، فيكون قد جمَعوا بين النَّفع لأنفسهم ولغيرهم.
عنِ ابنِ عبَّاسٍ لَمَّا نزَلَتْ هذه الآيةُ"وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"الأنعام: 152، و"إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا"النساء: 10، قال: اجتَنَب النَّاسُ مالَ اليتيمِ وطعامَه، فشَقَّ ذلك على المُسلِمينَ، فشكَوْا ذلكَ إلى النَّبيِّ، فأنزَل اللهُ"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ"البقرة: 220، إلى قوله"لَأَعْنَتَكُمْ"البقرة: 220.الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح النسائي-الصفحة أو الرقم : 3671 - خلاصة حكم المحدث : حسن.
أي: يسألُك المؤمنون يا محمَّد، عمَّا اشتدَّ عليهم فعله مع اليتامى؛ إذ كانوا يعزلون لهم طعامَهم؛ خوفًا من تناوله معهم، فإذا فضَل منه شيءٌ حبسوه لهم حتى يأكلوه أو يتغيَّر، فأخبَر الله تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُجيبهم بأنَّ المقصودَ إنَّما هو إصلاحُ أموال اليتامى، بحفظها، واستثمارها، والاتِّجار فيها لهم، فإنْ لم تأخذوا أجرًا على قيامكم بذلك فذلك خيرٌ لكم وأعظمُ أجرًا، وإن أصبتم من أموالهم شيئًا في مقابل قيامكم بشؤونهم، كأنْ خالطتموهم في طعامٍ أو غيره من الأموال فجائز- على وجهٍ لا يضرُّ باليتامى-؛ لأنَّهم إخوانكم في الدِّين، ومن شأن الأخ مخالطة أخيه.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ : أي: إنَّ الله تعالى وإنْ أذِن للمؤمنين في مخالطة اليتامى على ما سبق ذِكرُه، إلَّا أنَّه خوَّفهم وحذَّرهم من أن تُسوِّل لهم أنفسُهم شيئًا من الخداع لأكل أموال اليتامى بالباطل، فالمعوَّل في ذلك على النيَّة، فمَن خلط مال اليتيم بماله يريد مصلحته، فالله يعلم نيَّته وسيُثِيبه على ذلك، وإنْ حصَل أنْ دخل عليه شيءٌ من ماله من غير قصْدٍ، ولا طمعٍ، فلا حرج عليه؛ لأنَّ الله تعالى يعلم نيَّته، وأمَّا مَن قصد بتلك المخالطة التوصُّل بها إلى أكلِ ماله خديعةً، فالله عزَّ وجلَّ يعلم نيَّته، وسيعاقبه على ذلك.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: أي: إنَّ هذا الحُكم إنَّما شُرِع رخصةً من الله تعالى وتوسعةً على عباده؛ وإلَّا فإنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يشُقَّ عليهم بنَهيِهم عن خلط أموالهم بأموال اليتامى؛ وأمْرِهم بتقدير طعامهم تقديرًا دقيقًا، بحيث لا يَزيد عن حاجتهم، ولا ينقص عنها، فيقعوا بذلك في ضيقٍ وحرج؛ ويعاقبهم ربُّهم إنْ تركوا أمره، أو ارتكبوا نهيه؛ ذلك بأنَّ الله تعالى لا يعجزه شيء، وهو قاهرٌ لكلِّ شيء، وَفْق ما تقتضيه حِكمته؛ إذ يضَعُ كلَّ شيءٍ في موضعه اللائق به، فيعاقب مَن يستحقُّ ذلك لعناده، ويشرِّع ما فيه الخير والرحمة لعباده. الدرر السنية موسوعة التفسير.

التعديل الأخير تم بواسطة أم أبي التراب ; 02-24-2023 الساعة 03:14 PM
رد مع اقتباس